نشاط المتحف العمومي الوطني الباردو في ميدان البحث الإثنوغرافي في البيئة الصحراوية الجزائرية « توات- قورارة- تيديكلت »، و التي قام بإنجازها الإثنوغرافي السيد بيطار بلعيد، خلال دراسته لموضوع : الآلات الموسيقية التقليدية
في إطار مواصلة برنامج البحوث الإثنوغرافية التي يقوم بها الإثنوغرافي السيد بيطار بلعيد حول موضوع « الآلات الموسيقية التقليدية » بشكل عام، و تلك الجزائرية بشكل خاص، و بعد أن أتم انجاز بعض الدراسات الميدانية في هذا الموضوع، و التي قادته سنة 2017 إلى بيئة وادي الساورة (1)(التي تمثل -فيزيقيا- الحد الغربي لـ العرق الغربي الكبير من جهة، و هضبة الباليوجين أي حمادة مريجة-درمشان في الضفة اليمنى لـ غير، و المتصلة من الناحية الجنوبية بمرتفعات أوغارطه (2) من جهة أخرى)، و بعد دراسته الاستقصائية لاستطلاع بيئة توات- قورارة- تيديكلت (3) التي قام بها سنة 2018، (و التي تعتبر -من الناحية الطبيعية و الجغرافية و الأنثروبولوجية- امتداد بيئي طبيعي-اجتماعي لبيئة الساورة المرتبطة -اجتماعيا و اقتصاديا و إيكولوجيا- بـ وادي الساورة كمكون طبيعي يعود -في سلم الزمن الجيولوجي- إلى العصر الجيولوجي الرابع، و الذي يصل مجراه الطبيعي -على امتداد حوالي 500 كلم- إلى غاية سبخة تيمودي جنوبا)، واصل دراسته للموروث الاجتماعي-الثقافي لهذه البيئة، و ذلك من خلال مهمته الميدانية الأخيرة التي أنجزها في جانفي 2019، متقفيا أثار موروث الأنساق التعبيرية من وجهة نظر أنثروبولوجية، و الذي ترمز له -في موضوعه هذا- تقاليد الموسيقى و آلاتها التقليدية المتمددة مع تمدد روافد وادي الساورة في شكل وادي مسعود ضمن إقليم توات في أوقات التساقطات الكبيرة المؤدية إلى الفيضان الموسمي لمجراه و روافده، و المؤدي -أيضا كتحصيل حاصل- إلى سقي الزرع، و تخصيب التربة، و تنمية المنطقة، و تثبيت استقرار الساكنة بها. مع العلم، تشير بعض الدراسات الجيولوجية و أخرى أركيولوجية -على شكل فرضيات تقنية- إلى أن هذا الوادي كان يصل -سابقا- إلى سبخة تاودني المستحثة -حاليا- بشمال جمهورية مالي، و ذلك في العصور القديمة. للإشارة أيضا، تبعد هذه السبخة عن تلك بـ تيميمون في الشمال بحوالي 600 كلم، الأمر الذي يجعلنا نتخيل حالة ازدهار هذه البيئة الاجتماعية الشاسعة حينما كانت مياه هذا الوادي تتدفق من الشمال إلى أقصى الجنوب مؤدية إلى تسطيح الموروث الثقافي بتداخل عناصره الطبيعية، و الاقتصادية، و الاجتماعية من جهة، و انصهار اساليب التعايش الإيكولوجية فيها من جهة أخرى
*نماذج من خرائط توضيحية لأماكن اجراء الأبحاث مستقاة من الأنترنت*
في هذا الإطار، و من خلال هذه البحوث الميدانية المتخصصة، يعمل السيد بيطار بلعيد على جمع المعلومات المعرفية -المتعددة الأقطاب- من مصادرها، و التي تخص دراساته لموضوع الآلات الموسيقية التقليدية، سواء كانت جزائرية أو إفريقية أو ذات صلة بثقافة إفريقيا جنوب الصحراء، و ذلك لتصحيح و تعديل و إثراء المعلومات و محتوى بعض الكتابات القديمة المتوارثة، و التي تطرقت لهذا الموضوع في حينه من جهة، و جَلْبِ -بالمناسبة- بعض الآلات الموسيقية الأصلية من مصادرها الإثنولوجية و البيئية بشكل مباشر و بأقل تكلفة (4)، و التي يفتقر إليها رصيد المتحف في هذا التخصص من جهة أخرى، و ذلك قصد إثراء محتوى المجموعة المتحفية التي ورثها المتحف عن الإدارة الفرنسية سنة 1962، و تحضير مشروعه المتحفي المتمثل في تجسيد ملخص بحوثه -في هذا التخصص- ضمن معرضٍ للآلات الموسيقية التقليدية الذي يخطط لإنجازه على مستوى المؤسسة
أثناء دراسته الميدانية في هذه البيئة الطبيعية و الاجتماعية المترامية الأطراف، و التي تمثل بيئة جنوب غرب الجزائر ببواديها و قصورها، حيث اجتمعت و تعايشت -أنثروبولوجيا- العديد من الأعراق البدوية، و شبه البدوية، و الحضرية -على مر الأزمان- مع تلك الوافدة من شمال شرق إفريقيا و من إفريقيا جنوب الصحراء، و تكيفت ساكنتها مع الظروف الطبيعية الوعرة، و التي تشبثت بها لما توفره لها من أمنٍ و حماية استراتيجيين لاستمرار وجودها به، و الذي أدى -كتحصيل حاصل لتفاعلها الاجتماعي- إلى تشكيل أنماط ثقافية أعطت للمنطقة -بشكل عام- خصوصية حضارية ميزتها ثقافة مجتمعات الطوارق في منطقة برج باجي مختار الممتدة -تراثيا- إلى تيمياوين و تنزاواتين في أقصى الجنوب، و في ثقافة البدو الرحل من جهة، و القصوريين من جهة أخرى، و الذين تزخر حول عمارتهم الإيكولوجية سلسلة واحات امتدت من وادي الساورة إلى غاية إقليم توات جنوبا، مشكلة بذلك ما يعرف -في الكتابات الكلاسيكية- ببيئة طريق النخيل أو الشريط الأخضر
من أهم العناصر الثقافية التي شكلتها التفاعلات الاجتماعية-الطبيعية لساكنة هذا الشريط البيئي، و دعمتها آليات التنشئة الاجتماعية التي كرست موروث الحراك الجمعي لمجتمعاتها (التي تأخر جفاف بيئتها عن تلك الجنوبية الشرقية بحوالي 2000 سنة) في عمق لاشعور ساكنتها، نذكر الآلات الموسيقية التقليدية التي صُنِعَت -في الأصل- من « أدوات العمل اليومي » التي كانت تُحَوَل -ظرفيا- إلى آلات موسيقية مؤقتة، قبل إعادتها إلى حالتها الطبيعية و وظيفتها النفعية الأصلية من جهة، و من المواد الطبيعية المحلية الرئيسية التي كانت تُسْتَعْمَل في تشييد عمارتها من جهة ثانية، و ابْتُكِرَتْ استجابة لضرورة التجهير بالأصوات المكتومة من جهة أخرى، و التي ترمز -ضمنيا- إلى خوالج النفوس الحافظة لأسرار علاقة انسان هذه البيئة بطبيعة ظروفه المعيشية المُؤَطَرَة بنسق من الممارسات الطقسية التي انبثق عنها كل من العُرْفِ و التقاليد
للإشارة، لقد تم تعميق الدراسات في موضوع الآلات الموسيقية التقليدية -في هذه البيئة- و ذلك باستغلال نتائج الأبحاث الأركيولوجية التي تطرقت إلى بعض تفاصيله (التي دونتها ثقافة العصر الحجري الحديث)، و إلى الأركيولوجيا التجريبية (التي اهتمت بها بعض الأبحاث الغربية في القرن التاسع عشر إبان الاحتلال الغربي لقارة إفريقيا بشكل عام)، و إلى الإثنوغرافيا (التي غالبا ما ملأت بعض نتائجها بعض فراغات الدراسات الأثرية)، و الأنثروبولوجيا الثقافية (التي أصبحت تهتم -أيضا- بالمواضيع الآنية كتلك التقليدية ذات البعد المعرفي السوسيولوجي مثلا)، و علم التاريخ (الذي يلعب -في علاقته بالعلوم الإنسانية- نفس دور الرياضيات بالنسبة للعلوم الدقيقة)، و ذلك لمحاولة فهم دقائق تفاصيل هذا الموضوع من مختلف جوانبه المعرفية، الأمر الذي أدى إلى التعمق في الأصل التقني، ثم التاريخي، فالإثني، للكثير من الآلات كـ الأمزض و التيندي و أغاشو و أغَلَبهَ و طبال و إطبل و الطمجة… مثلا، و اكتشاف أخرى كانت قد نسيتها الذاكرة الجماعية لأسباب موضوعية كآلة نغنغتن ذات الجهاز الصوتي الذاتي مثلا، و ذلك بعد عمل ميداني كبير استطاع -من خلاله- السيد بيطار بلعيد و مساعديه في الميدان -كالسيد حرمة محمد من مديرية الثقافة بـ أدرار– تنشيط ذاكرة الأفراد، و إثارة اللاشعور الجمعي لبعض الساكنة (5). إلى جانب ذلك، عمل على تصحيح بعض المفاهيم التقليدية الخاصة بهذا الموضوع، و وضع أخرى جديدة ستخدم -لا محالة- صيغ الكتابة العلمية الخاصة بهذا الأخير، و التي رأى أنها تفتقد إليها، و كتحصيل حاصل، مساعدة الجامعيين المتخصصين في هذا المبحث التقني -و الذين يدرسون باللغة العربية- بإعطائهم وسائل تعبيرية علمية مقننة ستثري اللغة، و تحرر اللسان و الفكر، و تدعم الإبداع البحثي في هذا التخصص الذي احتكرته اللغات الأجنبية الممثلة للدول الغربية التي سبق و ان احتلت قارة إفريقيا -طولا و عرضا- لعشرات السنين
مع العلم، لقد تعمد السيد بيطار اختصار الإشارة لهذا الموضوع في الخطوط العريضة الخاصة بهذه المهمات البحثية الميدانية المتخصصة، كما تعمد -في هذه المقالة- تقديم صورة عامة لنشاطه في ميدان الدراسات الإثنوغرافية -بشكل خاص- دون التطرق إلى التفاصيل التي ما زال يدقق فيها، و دون التعمق في الموضوع الذي لا يزال مفتوحا من جهة، و في نتائج الأبحاث التي لا تزال -أيضا- جارية من جهة أخرى، و التي يمكن نشرها -قريبا- ريثما ينتهي من إعدادها
-السيد بيطار بلعيد -إثنوغرافي في المتحف العمومي الوطني الباردو